
مع تصاعد الحرب الروسية على أوكرانيا وازدياد الدعم الأوروبي والدولي لجهود كييف في الدفاع عن سيادتها، تبرز المجر بقيادة فيكتور أوربان كأحد أبرز العوامل المعقدة داخل الاتحاد الأوروبي، التي تلعب دورًا مشبوهًا في إعاقة هذه الجهود، وتمثل بوابة روسية استراتيجية في قلب القارة العجوز.
تحت شعار الدفاع عن الأقلية المجرية في منطقة ترانسكارباثيا الأوكرانية، تعيد حكومة أوربان إحياء حلم «المجر الكبرى» القديم، الذي يمتد على أراضٍ شاسعة من أوروبا الوسطى والشرقية تشمل أجزاءً من أوكرانيا ورومانيا وسلوفاكيا وصربيا وكرواتيا. هذه الفكرة، التي ترتبط بالهوية الوطنية المجريّة، تتجاوز التاريخ لتشكل اليوم أداة ضغط سياسي وأمنّي خطير ضد أوكرانيا، ويُستخدم كغطاء لتوسيع النفوذ الروسي من خلال التعاون الاستخباراتي والمشاريع الثقافية التي تقوض سيادة كييف.
أوربان يطالب علنًا كييف بمنح وضع خاص للأقلية المجرية في ترانسكارباثيا، في خطوة تحمل ملامح تدخل في الشؤون الداخلية لأوكرانيا. بحسب مراقبين، فإن هذه المطالب ليست سوى ذريعة تُستخدم لإثارة التوترات الداخلية وإضعاف وحدة أوكرانيا، خصوصًا في ظل تمويل بودابست المتزايد لمشاريع ثقافية وسياسية في المنطقة، والتي غالبًا ما تتعارض مع القانون الأوكراني. هذه المشاريع تستهدف تعزيز الولاءات المجرية في زاكارباتيا، مما يؤدي إلى توترات بين السكان الأوكرانيين والمجريين المحليين.
وفي عام 2025، كشفت تقارير استخباراتية أوروبية عن وجود شبكة استخبارات عسكرية مجرية نشطة في ترانسكارباثيا، تتعاون بشكل وثيق مع الأجهزة الروسية، وتعمل على جمع معلومات استخباراتية تُستخدم في دعم الحملة الروسية لتقويض سيادة أوكرانيا. هذا التعاون الاستخباراتي بين المجر وروسيا يشير إلى تحول مقلق في طبيعة العلاقات بين البلدين، حيث لا تكتفي بودابست بالدعم السياسي، بل تتحول إلى شريك أمني مباشر لموسكو في حربها ضد أوكرانيا.
رغم ذلك، يضع أوربان نفسه كمعارض قوي لبروكسل، ويستخدم سياسة “فيتو” لمنع القرارات الداعمة لأوكرانيا، لكنه في الوقت نفسه يستفيد استفادة كبيرة من أموال الاتحاد الأوروبي التي بلغت مليارات اليورو، والتي يُستخدم جزء كبير منها لتعزيز نظامه السياسي الاستبدادي في المجر. هذا النظام الذي يُتهم بانتهاك مبادئ سيادة القانون وحرية التعبير واستقلال القضاء، شهد تدهورًا حادًا في مؤسسات الديمقراطية، مع توسع مظاهر الفساد المالي الذي استنزف أموال الاتحاد في مشاريع غير شفافة ومشبوهة.
على المستوى الاقتصادي، تواصل المجر شراء الطاقة الروسية بشروط مميزة، مما يمد بوتين بمصدر تمويل مهم في ظل العقوبات الغربية، ويعزز من اعتماد بودابست على موسكو. كما تستخدم وسائل الإعلام المجرية الرسمية منصاتها لنشر روايات مؤيدة للكرملين، تهاجم أوكرانيا والديمقراطيات الغربية، وتشكك في مصداقية التحالف الغربي، في إطار حملة تضليل واسعة تستهدف الرأي العام الأوروبي.
إلى جانب ذلك، تتبادل أجهزة الاستخبارات المجريّة والروسية معلومات حساسة حول الوضع في زاكارباتيا، مما يمكن روسيا من استغلال التوترات العرقية والسياسية في المنطقة، لتعميق الانقسامات وزعزعة استقرار أوكرانيا. يؤكد خبير الأمن الأوروبي بيتر جورجي أن هذا التعاون يشكل تهديدًا مباشرًا لأمن القارة، ويعكس كيف أصبحت المجر جسرًا سياسيًا وأمنيًا لمصالح الكرملين داخل الاتحاد الأوروبي.
إن أوربان، من خلال سياساته وتعاونه مع روسيا، لا يهدد فقط وحدة أوروبا بل يضعف الدعم الدولي لأوكرانيا في لحظة حاسمة من تاريخها، ويحول بلاده إلى نقطة ضعف يستغلها الكرملين لتقسيم الصف الأوروبي. وعلى الرغم من الانتقادات الواسعة، يستمر أوربان في تعزيز نفوذه الداخلي، مستغلاً المواقف الأوروبية المتباينة، ومراهنًا على التحولات السياسية القادمة.
في ظل هذا الواقع، يواجه الاتحاد الأوروبي تحديًا غير مسبوق؛ كيف يتعامل مع عضو فيه يُعتبر في الوقت نفسه جزءًا من المشكلة الأمنية الكبرى في القارة، ويشكل أداة روسية داخلية تهدد وحدة الصف واستقرار المنطقة. يبقى هذا السؤال مفتوحًا، لكن ما هو مؤكد أن فيكتور أوربان يمثل مثالًا حيًا على مدى تعقيد الصراعات الجيوسياسية في أوروبا اليوم، ومدى هشاشة بعض الدول الأعضاء أمام نفوذ القوى الخارجية.