
نداء الوطن – محمد البابا
بعد أكثر من ثلاث سنوات من الحرب التي غيّرت وجه الجغرافيا الأوروبية والسياسات الدولية، تعود كلمة “السلام” إلى الواجهة، ولكن هذه المرة ضمن مسارات متشعبة تبرز فيها حسابات القوى الكبرى، ومخاوف الدول الصغيرة، وتمسك أوكرانيا بسيادتها الكاملة. ورغم تكثيف الجهود الأوروبية والأميركية للتوصل إلى تسوية، فإن الواقع الميداني والمواقف المتباعدة تجعل السلام أقرب إلى مفهوم “التجميد المؤقت” منه إلى اتفاق نهائي يعيد الاستقرار الدائم للمنطقة.
وخلال الأسابيع القليلة الماضية تكثفت المساعي الدولية لتفعيل قنوات الدبلوماسية وفتح آفاق سلام مستدام يضع حدًا لأحد أكثر النزاعات دموية في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية. وفي هذا السياق، برزت خلال الأشهر الماضية مبادرات أميركية وأوروبية متعددة، تتراوح بين خطط لدعم عسكري طويل الأمد، ومقترحات سلام مشروطة، وصولًا إلى مفاوضات دقيقة تُعقد خلف الأبواب المغلقة.
فخلال قمة لندن في آذار 2025، أعلنت المملكة المتحدة وعدد من دول الاتحاد الأوروبي عن تشكيل ما يُعرف بـ”تحالف الراغبين”، وهو تجمع يضم أكثر من 30 دولة مستعدة لتقديم دعم عسكري واقتصادي مكثف لأوكرانيا، مع التزام مستقبلي بالمساهمة في عمليات حفظ السلام حال التوصل إلى اتفاق سياسي شامل.
جاءت خطة هذا التحالف بدفع من باريس وبرلين، حيث تضمنت أربع نقاط رئيسية: استمرار تقديم الدعم العسكري، ضمان مشاركة أوكرانيا في كل مفاوضات السلام، تأمين الضمانات الأمنية بعد انتهاء الحرب، والتزام جماعي بحماية أوكرانيا من أي عدوان جديد.
ترافق اطلاق هذه الخطة مع إعلان لندن عن حزمة مساعدات إضافية بلغت 3.2 مليار دولار، شملت توسيع إنتاج الأسلحة الموجهة والدفاعات الجوية داخل أوروبا لتأمين حاجات الجيش الأوكراني خلال 2025 و2026.
ورغم أن الخطاب الأوروبي بدا تصعيدياً من حيث اللهجة، فإنه حمل في طياته اعترافاً ضمنياً بأن أوكرانيا وحدها ومن دون غطاء دولي أمني جديد، قد تكون عاجزة عن ضمان أمنها بعد الحرب، وقد تكون معرضة لغزو جديد في المستقبل.
تباينت طروحات الولايات المتحدة المتمثلة بمواقف الرئيس دونالد ترامب الذي وضع سياسة جديدة في التعاطي مع الملف الأوكراني تحت عنوان وضع نهاية لهذه الحرب. ففي الوقت الذي أيدت إدارة الرئيس السابق جو بايدن “خطة السلام الأوكرانية” القائمة على النقاط العشر وقدمت الدعم العسكري السخي لكييف وجيشها للدفاع عن نفسها، جاءت مواقف الرئيس دونالد ترامب مغايرة للمسار السابق بشكل كامل فدعت إلى وقف إطلاق نار فوري بداية من جدة ثم الرياض ووطرح معادلات قاسية على كييف مثل الاعتراف بضم روسيا لشبه جزيرة القرم واجبارها على التنازلات القاسية، وإجراء مفاوضات على أساس خطوط التماس الحالية، اضافة الى الضغط على زيلينسكي لتوقيع اتفاقية المعادن الأمر الذي شكل صدمة لأوكرانيا وحلفائها.
وبحسب مصادر صحفية أمريكية، فإن بعض هذه المقترحات نوقشت ضمن لقاءات غير رسمية مع أطراف أوروبية خلال الأسابيع الماضية، لكنها لاقت اعتراضًا واسعًا من اوروبا وأوكرانيا ، حيث شدد الرئيس زيلينسكي على رفض أي حلول تتضمن تنازلات إقليمية دون تقديم ضمانات امنية لكييف تكفلها الولايات المتحدة الأمريكية التي تعجز حتى هذه اللحظة عن معالجة الفجوة الكبيرة بين البلدين.
وفي ظل المسعى الأميركي الجاد لايجاد للوصول الى نقاط مشتركة يمكن الانطلاق منها لبدء مفاوضات بين أوكرانيا وروسيا، ومع اعلان زيلينسكي انه مستعد لبدء مفاوضات مباشرة بعد وقف اطلاق نار لمدة ٣٠ يوما دون اي شروط مسبقة برعاية الولايات المتحدة الأمريكية، فجاء الجواب الروسي قاسياً على كييف والذي تمثل بسلسلة هجمات صاروخية مؤلمة استهدفت اهم المدن الأوكرانية مثل كييف خاركيف سومي ودنيبر، حتى مدينة كريفوي روغ مسقط رأس زيلينسكي هُوجمت بعنف، ما اوقع العشرات من القتلى، الامر الذي دفع بترامب لتغيير لغته مع روسيا التي وصلت الى حد تشكيكه بنية بوتين في السلام وتلويحه بفرص عقوبات على روسيا، هذا الموقف أطلق بعد لقاء سريع في الفاتيكان ضم ترامب زيلينسكي للمرة الأولى بين الرجلين بعد مشادة المكتب البيضاوي.
في تطور لافت، كشفت تقارير إعلامية عن تقديم أوكرانيا، بدعم أوروبي، لصيغة سلام جديدة خلال مشاورات عُقدت في لندن نهاية أبريل الجاري. وتتضمن هذه الصيغة وقفًا شاملًا لإطلاق النار تحت إشراف دولي، تبادلًا إنسانيًا فوريًا (يشمل الأطفال المرحّلين)، وضمانات أمنية من النمط الغربي دون عضوية رسمية في الناتو، اضافةً اتفاقًا اقتصاديًا مع واشنطن بشأن استثمار الموارد الطبيعية الأوكرانية.
ويُنظر إلى هذا المقترح على أنه محاولة لتوحيد المواقف الغربية قبل الدخول في أي مفاوضات مباشرة مع موسكو، التي لا تزال تشترط الاعتراف بما تسميه “الواقع الجيوسياسي الجديد”.
ورغم هذه المبادرات، تبقى فرص التوصل إلى سلام فعلي رهينة عدة عوامل، أبرزها:
● تمسّك موسكو بضمها لأربع مناطق أوكرانية.
● رفض كييف لأي تنازل سيادي عن الأراضي.
● الانقسام داخل المعسكر الغربي بين مؤيد للحل التفاوضي وآخر يرى ضرورة تحقيق نصر عسكري أولًا.
● الخشية الأوروبية من تقلّص الدعم الأمريكي مع اقتراب الانتخابات الرئاسية.
بين كل هذه المبادرات، يبرز الموقف الروسي بثبات غير مفاجئ. فالكرملين لا يعترف ولن يقبل أي خطة لا تكرّس ما يسميه “الواقع الجديد”، أي ضم القرم وأربعة أقاليم أخرى. وقد عبّر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مرارًا عن استعداده للتفاوض، “ولكن على أساس ما تحقق ميدانيًا”.
يمكن القول أن روسيا تستفيد من طول أمد الحرب، ومن تعثر الماكينة الصناعية الغربية في مواكبة متطلبات الدعم لأوكرانيا عبر سيطرتها وبشمل بطيء على اراضي جديدة في شرق أوكرانيا و كورسك. كما تستفيد أيضاً من مواقف واشنطن الجديدة واهمها وقف الدعم العسكري لكييف، ومن برودة نسبية بدأت تظهر داخل المجتمعات الأوروبية بشأن استمرار الحرب.
رغم الخطوات المتقدمة في صياغة مقترحات سلام مشتركة، لا تزال الطريق إلى إنهاء الحرب في أوكرانيا طويلة وشائكة، فبين منطق التفاوض ومنطق السلاح، تظل الحقيقة الثابتة أن إنهاء النزاع لن يتحقق إلا بتفاهمات دولية شاملة تُراعي السيادة الأوكرانية وتوازنات الأمن الإقليمي.
ما يجري حاليًا ليس خطة سلام واحدة، بل حزمة متناقضة من المبادرات، تتراوح بين التسوية السياسية الشاملة، والتجميد العسكري المؤقت، والحلول المجتزأة. لا أوروبا موحدة تمامًا خلف رؤية واحدة، ولا أمريكا تحسم موقفها داخليًا، ولا روسيا تبدو مستعدة لتنازل استراتيجي.
ومع ذلك، فإن مجرد بروز هذه المبادرات، وتحول لغة الخطاب من الحسم العسكري إلى الشروط السياسية، يمثل تحولًا لافتًا قد ينضج خلال الأشهر المقبلة، خصوصًا في ظل التغيرات السياسية في أوروبا وأمريكا.
تبدو خطة السلام في أوكرانيا اليوم أقرب إلى لوحة فسيفساء دولية، تختلف ألوانها بتغير السياسات وموازين القوى. فبينما تتمسك أوكرانيا بحقها في التحرير الكامل، تصر روسيا على مكاسبها الجغرافية، فتجد أوروبا وأمريكا نفسيهما في سباق مع الزمن لصياغة اتفاق لا يبدو مثاليًا، لكنه قد يكون كافيًا لتثبيت استقرار هش، ولو مؤقتًا.