
كتب محمد البابا :
لسنواتٍ طويلة، كانت أوروبا تعتبر قاطرة التنوير والتقدم الإنساني، تتباهى بنموذجها الليبرالي، وتصدّر للعالم “قيمها الحديثة ” التي وضعت الفرد في قلب المعادلة، فغابت عنها تماماً معاني الواجب والانتماء والتضحية.
وباسم الحريات، شرّعت كل أنواع الاختلافات، وروّجت لخطابات أسقطت كل ما هو تقليدي، بدءاً من مفهوم العائلة التي انحدرت، وصولاً إلى صورة الرجل ودوره في المجتمع. لكن ماذا بقي من كل هذا حين قرعت الحرب أبوابها؟
ومع مرور الوقت تبين أن ليست الحريات هي مشكلة في ذاتها، بل ما تبعها من موجات فردانية جارفة جعلت الفرد ينظر إلى أن أي التزام جماعي كتهديد لحريته الزائفة. فتراجعت سلطة الأسرة، وضعف تأثير الدين وانحدرت الأخلاق مع انتشار الجشع، وانقرضت معاني الالتزام للوطن وواجب الدفاع عنه، وتحولت الناس الى اشبه بانسان آلي هدفه العمل، وتحوّل الجندي من “رمز للفداء” إلى “صورة عنف”، مثلاً في الإعلام الأوروبي، فأصبح كل ما هو عسكري مشبوهاً، وكل ما هو تقليدي مرفوضاً، وباسم التقدم، أُقصيت القيم الأساسية التي صاغت مجتمعات قادرة على الصمود في وجه الأزمات.
في العقدين الأخيرين، دعمت أوروبا، وبشكل شبه أعمى، أي حراك يدعو للتحرر الجنسي والاجتماعي، حتى بات الانتماء إلى هويات جديدة هو عنوان الحياة العصرية، بينما يُنظر إلى الذكورة كأداة قمع وتهديد، وإلى الرجولة كأفكار بائدة، فتراجع خطاب القوة، وتم استبداله بخطاب “التحسّس من كل شيء”، حتى فقدت المجتمعات مناعتها، وانهارت مفاهيم الارتباط العائلي وتحول التحرر الى عنوان رئيسي سبب تراجع خطير في التطور السكاني ما دفع ببعض الدول إلى الاعتماد على سياسة استقطاب المهاجرين لتعويض النقص في السكان والحفاظ على الخدمات.
الصدمة مع قرع طبول الحرب
ومع اندلاع الحرب في أوكرانيا، وتصاعد التوترات على حدود الناتو، اصطدمت أوروبا بالواقع المرّ الذي اظهر الحاجة الماسة إلى رجال للانضمام الى الجيوش، حيث ظهر ان الشعارات والمؤتمرات لن تقف في وجه صواريخ وطائرات ستهاجم اوروبا بل يحب ان يتم تأهيل المجتمع من جديد لتأمين الحماية والأمن مع الحديث انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية تدريجياً من دورهت كدرع امني للقارة العجوز.
فجيوش أوروبا المموّلة جيداً، تعاني من نقص حاد في الجنود، مع التراجع الكبير في نسب الانجاب، حيث تواجه دول مثل ألمانيا، وفرنسا، وبريطانيا تحديات في تجنيد شباب مستعدّ للقتال، مع وجود قوانين تمنع إجبار الشباب على الحرب.
كشفت الإحصائيات الأخيرة تراجعاً حاداً في نسب الإقبال على الخدمة العسكرية، بل حتى الاستعداد النفسي لحمل السلاح تراجع، فهاجس الحروب غاب عن الأوروبيين منذ نهاية تلحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفيتي .
من المسؤول عن هذه الأزمة؟ تطرح أوروبا هذا الهاجس بخجل، فالحقيقة واضحة من الجواب الوحيد ان المجتمع الذي تم تفكيكه لأجل “التحرر”، فقد قدرته على التنظيم والتضحية الجماعية، حيث لم يعد الشاب الأوروبي يرى في وطنه ما يستحق الموت من أجله، بل بالكاد يرى أنه ينتمي إليه.
ساهم الخطاب الإعلامي الأوروبي بشكل كبير في هذا الانهيار، فلعقود سابقة روجت وسائل الإعلام لنماذج “غير النمطية”، كانت تُقصي كل ما يمت بصلة للصورة الكلاسيكية للرجل، أو الجندي، أو القائد، وتم تهميش كل خطاب يتحدث عن الهوية الوطنية، ما أدى الى تحطيم فكرة “الحدود” لصالح “المواطنة الكونية”. والنتيجة؟ مجتمعات بلا رابط مشترك.
بل الأسوأ، أن من يعارض هذا التوجه يُتهم فوراً بالرجعية أو الكراهية، وحتى داخل مؤسسات الحكم، لم يعد هناك من يجرؤ على قول: “نحتاج رجالاً”. فالكلمة نفسها أصبحت عبئاً لغوياً وثقافياً.
في أكثر من مشهد دولي، بدت أوروبا وكأنها فقدت ليس فقط جنودها، بل أيضاً شجاعتها السياسية، ففي الحرب الروسية الأوكرانية، لعبت أوروبا دور التابع للولايات المتحدة، وأصبح زيلينسكي الذي وفق بوجه بوتين نموذج للحكام المطلوبين في هذه المرحلة حيث استطاع فرض طلباته على الزعماء الأوروبيين خَفا من اقتراب بوتين لمعرفتين في النقص الخاد في الامكانيات العسكرية التي لا تشكل قدرة ردع ضد اي تهديد قد يطال دول الإتحاد الأوروبي الذي سلم مهمة الدفاع الى جيش الناتو المتوقع خروحه الى التقتعد قريبا في ظل الخديث عن الخروج القريب للولايات المتحدة الأمريكية منه ما يعني سقوطه، وفي مأساة غزة، لم تجرؤ أوروبا على اتخاذ مواقف مستقلة.
فأين أوروبا التي كانت تفاوض وتقود وتفكر؟ ربما ضاعت في زحمة الصراعات الداخلية، والهوس بالتصحيح السياسي الذي شلّ قدرتها على اتخاذ مواقف حاسمة.
في خضم هذا الخلل البنيوي، بدأ يتداول في بعض العواصم الأوروبية اقتراحٌ جدليٌّ يقضي بإلزام اللاجئين والنازحين بالانضمام إلى صفوف الجيش بشكل اجباري ، وإلا سيتم توجيه إجراءات ترحيلية بحقهم.
يرى مؤيدو هذا المقترح أنه حل سريع لسد النقص الحاد في عدد المجندين، ويعد “تكاملاً إجباريًا” بين تقديم الملاذ والحصول على الواجبات. بينما يندد معارضو الفكرة بأنها تمسّ بحق اللجوء المكفول دولياً، وتشكل انتهاكاً صارخاً لحقوق الإنسان، بل قد تفاقم منحة الرفض والتشدّد الأمني تجاه اللاجئين. هذا الجدل يفتح الأسئلة الكبرى: هل يمكن للاجئين، الذين يبحثون عن الأمان والحماية، أن يُفرض عليهم خدمة القتال؟ وهل ستقبل المجتمعات التي دعمتهم يوماً بإرسالهم إلى خطوط النار بالقوة أو الرحيل؟
هل هناك أمل؟
بدأت بعض الأصوات تظهر في المشهد الأوروبي تنادي بضرورة “العودة إلى الجذور”. سياسيون ومفكرون باتوا يتحدثون بوضوح عن الحاجة لإعادة الاعتبار للهوية، للخدمة الوطنية، وللتربية العسكرية. لكن هذه الأصوات تُهاجم بسرعة، ويتم وصفها باليمينية المتطرفة أو المعادية للحريات.
إلا أن الزمن قد لا يرحم. مع ازدياد التهديدات، سواء من الشرق أو من الداخل، قد تجد أوروبا نفسها مضطرة للتراجع خطوة إلى الوراء، وإعادة بناء المجتمعات على أسس توازن بين الحرية والهوية، بين الحقوق والواجبات.
حرية بلا مسؤولية… طريق إلى التفكك؟
الحرية قيمة عظيمة، ولكن حين تتحوّل إلى فوضى، وتُقطع عن جذورها، فإنها تنتج مجتمعات هشة. ما نراه اليوم في أوروبا هو نتيجة عقود من سياسات انفصلت عن الواقع، وتغاضت عن أسئلة كبرى: من نحن؟ من يدافع عنا؟ من نحمي؟ وماذا نريد أن نكون في عالمٍ لا يعرف الرحمة؟
حين تحتاج أوروبا إلى رجال يحملون السلاح، ولا تجدهم، فربما تكون لحظة الحقيقة قد حانت. والسؤال لم يعد هل نُخطئ في ترتيب أولوياتنا؟ بل اصبح هل تأخّرنا كثيراً في إدراك الحقيقة لسنواتٍ عندما اصبحت الحرب أبوابها؟