
كتب محمد البابا
في خضام التصعيد المستمر في أوكرانيا، وبينما تترنح الجهود الدبلوماسية أمام شراسة الوقائع الميدانية، شهد العالم اتصالًا لافتًا بين الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، المكالمة، التي وُصفت بـ”الممتازة” من الجانب الأمريكي، أعادت طرح سؤال جوهري على طاولة التحليل السياسي: هل تسعى روسيا بالفعل إلى السلام، أم أن ما يجري ليس سوى فصل جديد من فصول المراوغة الاستراتيجية؟
بين الحوار والتصعيد… مفارقة اللحظة المفارقة التي لم تغب عن أنظار المراقبين، هي أن هذا الاتصال جاء بعد أقل من 24 ساعة على تنفيذ روسيا لأكبر هجوم جوي بالطائرات المسيّرة منذ بداية الحرب.
فقد أطلقت القوات الروسية 273 طائرة مسيّرة من طراز “شاهد” الإيرانية على العاصمة كييف وعدة مدن أوكرانية أخرى، مما أسفر عن مقتل امرأة وإصابة مدنيين، في تصعيد وصفه المتحدث باسم الجيش الأوكراني بأنه “رسالة واضحة بأن الكرملين لا ينوي التراجع”.
هذا التزامن المريب بين التصعيد العسكري والتواصل السياسي، يعكس تناقضًا جوهريًا في الخطاب الروسي، ويطرح تساؤلات حول نوايا بوتين الحقيقية.
بالنسبة لترامب، فإن الانخراط في وساطة غير رسمية قد يمنحه رصيدًا انتخابيًا إضافيًا، خاصة مع جمهوره المحافظ الذي يُفضل مقاربة أكثر “براغماتية” تجاه روسيا.
أما من ناحية موسكو، فإن القناة الترامبية قد تُشكل فرصة لتليين اللهجة الأمريكية دون التزام سياسي أو قانوني، خصوصًا أن ترامب لا يشغل حاليًا منصبًا رسميًا.
التواصل مع شخصية تعتبرها موسكو “أقل عدائية” من الإدارة الحالية، يندرج ضمن إطار تقليدي في السياسة الخارجية الروسية: اختبار الاحتمالات، وتوسيع هوامش المناورة.
مفاوضات إسطنبول: فشل بنيوي في نية الحللا يمكن قراءة الاتصال الهاتفي بمعزل عن سجل المحاولات الدبلوماسية السابقة.
ففي مفاوضات إسطنبول التي جرت في مارس 2022، لم تكن نية الحل واضحة من الجانب الروسي. ورغم أن تركيا بذلت جهدًا في توفير أرضية ملائمة، فإن تشكيلة الوفد الروسي، الذي جاء بمستوى منخفض من التمثيل، وافتقاده لأي شخصية تفاوضية قادرة على اتخاذ القرار، كانا كافيين للدلالة على أن الكرملين لم يأتِ بنيّة التوصل إلى اتفاق.
النتيجة كانت معروفة سلفًا: لا اتفاق، ولا تهدئة، بل مجرد جولة استُخدمت لإعادة تموضع القوات الروسية وتحسين مواقعها في شرق أوكرانيا. هذا النموذج الفاشل في إسطنبول تحول إلى سابقة يُقاس عليها كل تحرك سياسي لاحق من جانب موسكو.وترى أوكرانيا انه من أجل إجبار موسكو على الانخراط في الدبلوماسية، من الضروري زيادة الضغط بالعقوبات على روسيا، تشعر أيضاً بالامتنان للولايات المتحدة لجهودها الرامية إلى إنهاء الحرب، وقد دعمت باستمرار المقترحات الأمريكية، بما في ذلك وقف إطلاق النار والمفاوضات المباشرة مع روسيا.
من ناحيتها ترفض موسكو قبول وقف إطلاق النار غير المشروط، كما أظهرت محادثات إسطنبول، فإنها تضع شروطًا غير واقعية، كل هذا يظهر أن موسكو ليس لديها أي نية لإنهاء الحرب وأنها تستخدم الدبلوماسية للمماطلة فقط.
وتطالب كييف بزيادة الضغط على روسيا من خلال العقوبات من أجل البدء في تسوية دبلوماسية حقيقية، ونعتبر انه يجب أن يستمر هذا الضغط حتى تكون موسكو مستعدة لوقف عدوانها.وتؤكد كييف أن فشل كل المبادرات لانهاء الحرب وغياب احترام القانون الدولي الإنساني يشجع موسكو على مواصلة عدوانها.فمنذ بداية الغزو الشامل، سجلت أوكرانيا أكثر من 167 ألف جريمة حرب ارتكبها الحيش الروسي منذ بداية الغزو الشامل، و سُجِلَ مقتل أكثر من 45 ألف مدني.ووتتهم كييف روسيا بارتكاب جرائم ضد الأطفال الأوكرانيين بشكل منهجي حيث قُتل 625 طفلاً وتم ترحيل 19,500 طفل قسراً إلى روسيا.إن الإفلات من العقاب يشجع المعتدي الروسي على ارتكاب المزيد من الجرائم، وقد يصبح وقودًا لحرب قادمة أكبر.
الخارجية الأوكرانية في بياناتها المتتالية تقول انه لا يمكن وضع حد للحرب ومنع توسع العدوان الروسي إلى دول أخرى في القارة الأوروبية إلا بزيادة الضغط على روسيا.
دبلوماسية للعرض… وقتال للواقع والمعطيات الميدانية
تشير إلى أن الكرملين يتبع استراتيجية تقوم على تقديم إشارات دبلوماسية تكتيكية كلما اشتدت الضغوط العسكرية والدولية، لا بهدف الوصول إلى تسوية، بل لامتصاص الصدمات، وتخفيف وتيرة العقوبات، وإرباك المواقف الغربية.
فالاتصال مع ترامب ليس إلا حلقة في سلسلة مناورات تهدف إلى خلق واجهة سلمية تخفي وراءها وقائع دامية على الأرض.
وقد حذر محللون في مراكز أبحاث غربية بارزة من الانخداع بهذه الإشارات، مؤكدين أن بوتين لم يغيّر جوهر استراتيجيته، بل يسعى لإعادة إنتاج “مينسك جديدة”، أي اتفاق مؤقت يجمّد الصراع ويمنحه فرصة لبناء قوته من جديد.
لا سلام مع استراتيجيات الحرب
إن الاتصال بين ترامب وبوتين، مهما بلغ من التنسيق أو حسن النوايا المعلنة، لن يُفضي إلى سلام حقيقي ما دامت الأرض تشهد تصعيدًا متواصلًا، وما دامت موسكو ترى في المبادرات السياسية مجرد أدوات تكتيكية. في ظل هذا الواقع، تبدو فرص التسوية أبعد من أي وقت مضى، إلا إذا تغيّر ميزان القوى ميدانيًا، أو حدث تحوّل جذري في الرؤية الروسية لمستقبل أوكرانيا.وفي الانتظار، تبقى المكالمات الطويلة والعبارات الإيجابية بلا أثر، حين يُسكتها دويّ الطائرات المسيّرة وصواريخ كروز.